مجرد رأي : من أجل مدونة لترسيخ دولة القانون المؤسسات
الرباط – العرب تيفي – عبد الفتاح الصادقي
ظل القانون المتعلق بالأسرة المغربية موضوعا رئيسيا للنقاش في الفضاء العام، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، وتعرض لنقد وجدال مستمرين في الأوساط الإعلامية والأكاديمية والحقوقية والسياسية. وعرف هذا النص القانوني منذ ظهوره في سنة 1958، تحت عنوان “مدونة الأحوال الشخصية”، أول إصلاح محدود سنة 1993، ثم جاء إصلاح موسع في سنة 2004 تحث اسم “مدونة الأسرة”، حيث اعتبره الكثير من الباحثين أكثر تقدما بالمقارنة من مضامين النص السابق.
وكان جلالة الملك محمد السادس دعا، خلال شهر شتنبر من سنة 2023 ، رئيس الحكومة إلى إعادة النظر في هذا القانون بمشاركة الهيئات الرسمية وفعاليات المجتمع المدني. وتشكلت هيئة خاصة كلفت بمراجعة مدونة الأسرة من خلال فتح مشاورات مع مختلف الفاعلين، و رفعت تقريرها إلى الملك بعد انتهاء مهامها، وهو التقرير الذي تضمن أكثر من 100 مقترح تعديل على المدونة، أحالها الملك – بصفته أميرا للمؤمنين- منها تلك المرتبطة بنصوص دينية على نظر المجلس العلمي الأعلى، الذي أصدر بشأنها رأيه الشرعي. ومن المنتظر بلورة هذه المقترحات في مبادرة تشريعية طبقا لأحكام الدستور المغربي، ستخضع للمناقشة والتصويت داخل البرلمان بمجلسيه.
ويظهر أنه بعد مشاورات دامت عدة شهور حول هذا المشروع الإصلاحي، يتم الاستعداد لإطلاق النسخة الثالثة من الإصلاح الذي عرفته مدونة الأسرة منذ الاستقلال، و هي النسخة التي من المفترض أن تتجاوز نقائص الماضي وثغرات التطبيق، وتسعى إلى ترسيخ دولة القانون المؤسسات، عبر إنصاف المرأة وضمان حقوق الطفل وصيانة كرامة الرجل، وبالتالي حماية الأسرة..
إن الاستمرار في الحديث عن القانون الخاص بالأسرة بعد الإصلاح الذي انتقل به من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة و خضوع هذه الأخيرة للتقييم والتحليل بعد مرور حوالي عقدين من الزمن على تطبيقها، يعني أنها تحمل رؤية متطورة تتناغم مع السياق الوطني بتحولاته ومع السياق الدولي بمتغيراته. وهذا يعني أن أحكامها لا تأخذ طابع الثبات والقداسة، وأن هذه المدونة، مثلها مثل أي نص قانوني آخر، قد يخضع للتنقيح والتعديل، بما يضمن تكييفه مع تطور المجتمع وتلبياته للحاجيات المستجدة للمواطنين.
ولا شك أن الجميع يدرك أن الأسرة تعد مؤسسة عالمية، وهي أحد المكونات الأساس لجميع المجتمعات البشرية. وتتميز بتنوعها الكبير سواء على المستوى المكاني أوالزماني. وعلى مر العصور، خضعت بنيتها، في جميع المجتمعات البشرية، لتعديلات وتحولات عميقة، فمرة كانت تخضع لسلطة المرأة ومرة أخرى لسلطة الرجل، ومرة ثالثة يتحقق فيها التوازن بين الاثنين، مع الانضباط والامتثال للعادات والمعايير المعتمدة في هذا المجتمع أو ذاك. والواقع أن النموذج الذي ظل أكثر انتشارًا وشيوعا حتى اليوم هو “الأسرة ذات الخلية الواحدة” أو الأسرة النووية، التي تقتصر على أبوين بالغين وأطفال قاصرين، حتى لو كانت هناك أنواع أخرى من الأسر، مثل الأسرة الكبيرة الممتدة “الدار الكبيرة”، القائمة على تمثلات فكرية واجتماعية وروابط عاطفية، يختلف شكلها باختلاف الزمان والمكان، والتي لا تزال موجودة في بعض المجتمعات، ومنها المجتمع المغربي، ولو بشكل محدود.
والحقيقة أنه بين التراث التاريخي والقواعد الدينية والتشريعات الوضعية والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كانت الأسرة دائمًا موضوع خلاف على الأقل بين طرفين أساسيان يختلفان، بين من يدعون إلى التشبث بالموروث الاجتماعي والديني، ومن يدعون إلى التمرد على التراث والماضي بكل صوره وأشكاله، بين من يصنفون ضمن “الحداثيين”، ومن يحسبون على “المحافظين”. لقد ظلت الأسرة موضوع تجاذب بين من يرى ضرورة الخضوع لثوابت وخصوصيات المجتمعات، ومن يدعو إلى التجاوب مع متطلبات التطور الذي يهم الفرد والأسرة والمجتمع على حد سواء.. ومهما كان الخلاف فهناك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن الجميع ينظر إلى الأسرة باعتبارها حجر الزاوية بالنسبة للمجتمع البشري، بنهوضها وسموها ينهض المجتمع ويسمو، وبانهيارها وانحطاطها ينهار المجتمع وينحط، ولذلك يجب أن تكون موضوع اهتمام خاص في مواجهة العقليات البشرية والحقائق الاجتماعية المحكومة بحتمية التغيير والتطور.
ويبدو أن هذا الاهتمام يأخذ بعدا استراتيجيا في بناء المجتمعات التي تسعى إلى التقدم وتحقيق التنمية الشاملة في ظل دولة القانون والمؤسسات، ذلك أن الأسرة هي الفضاء الأرحب لبناء مواطن الحاضر والمستقبل، فهي تلعب دوراً أساساً في اكتساب قيم العدل والإنصاف والتضامن والاحترام والشعور بالواجب. وبدون هذه القيم لا يمكن بناء دولة القانون والمؤسسات .
ومن هذا المنطلق، يُنظر إلى قانون الأسرة باعتباره أساس المجتمع السليم الذي يعيش في كنفه الآباء والأمهات والأطفال كمواطنين مع الاعتراف بحقوقهم وتوفير آليات حمايتها وحفظها؛ وهو قانون تحكمه معايير وقواعد وأحكام تضمن كرامة هؤلاء المواطنين دون تمييز أو تحقير..
إن النساء والرجال متساوون أمام هذا القانون، وحقوقهم معترف بها ومكفولة في إطار مواطنة حقيقية وفعالة، وهم خاضعون لمبدأ استقرار الأسرة وتضامنها وتطورها، والأطفال متمتعون بحقوقهم الفضلى في التنشئة والتربية، بعيدا عن الخضوع لأي سلطة تعسفية قد تؤدي إلى تقويض دعائم مؤسسة الأسرة.