الرباط – العرب تيفي
الصحافي عبد الفتاح الصادقي يكتب : الصحافة المغربية أمام المصير المجهول
لا يجادل اثنان في كون قطاع الصحافة المغربية يتخبط في أزمة عميقة تتفاقم انعكاساتها السلبية يوما بعد يوم، وتحد من الأدوار التي من المفروض أن يضطلع بها في بناء المجتمع الديمقراطي، بل إنها تهدد وجوده في المستقبل المنظور.
إن هذا الوضع المأزوم، بعيداً عن الجوانب الظرفية الطارئة، يمثل جزء من سياق التحول العالمي للمشهد الإعلامي، والذي تفاقم بفعل عوامل خاصة بالسياق المغربي في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والمجتمعية ككل.. وإذا كان هذا الوضع ليس واقعا حتميا يستحيل الخروج منه، فإن الضرورة تقتضي تحليل أسبابه البنيوية والظرفية، مع استكشاف الأسس المحتملة للتعافي المستدام، الذي يمكن من تحقيق النهوض والتطور المستقبلي.
وإذا كان تداول وتبادل المعلومات يلعب دورا حاسما في التنمية الديمقراطية والاقتصادية للبلاد، فإن فهم عوامل وآليات هذه الأزمة وتحديد سبل الخروج منها يشكل تحديا كبيرا لمستقبل قطاع الإعلام المغربي. ويمكن الوقوف عند نوعين من العوامل المتحكمة في هذه الأزمة، النوع الأول يتمثل في الأسباب الهيكلية، التي تشمل التحول الرقمي وتحدياته، وفشل النموذج الاقتصادي التقليدي المرتبط بهشاشة النموذج الاقتصادي للمقاولة الصحفية، والتحديات المتعلقة بحكامة التدبير والتكوين وتطوير المهارات الإعلامية، إلى جانب قضايا حرية الصحافة واستقلال قاعات التحرير. أما النوع الثاني من العوامل فيتمثل في الأسباب الظرفية المرتبطة بالتحولات الخارجية وتشمل تداعيات جائحة كورونا منذ انفجارها، وانعكاسات الصدمات الاقتصادية، والتغيرات السريعة في عادات القراء والمستهلكين بشكل عام..
بالنسبة للأسباب الهيكلية للأزمة، لاشك أن قطاع الصحافة في المملكة المغربية ظل، منذ عقود، يشكو من ضعف الانتشار ومحدودية قاعدة القراء وضعف الاستثمار في البنيات الأساسية الإعلامية، وجاءت الثورة الرقمية لتشكل عاملا بنيويا فاقم من هذه الأزمة. وفي هذا الإطار تؤكد المعطيات المتوفرة أن الصحافة المكتوبة، تواجه أزمة غير مسبوقة، تتميز بالانخفاض المستمر لعدد القراء وتراجع الكبير لعائدات الإعلانات. وكان تأثير التحول الرقمي واضحا في ذلك، إذ لوحظت هجرة جماعية للقراء من الوسائل التقليدية نحو المنصات الرقمية، وأصبح الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي الوسيلة الأساسية للحصول على المعلومات أمام الجمهور المغربي، وخاصة الشباب..
والواقع أن الأزمة العميقة التي يترنح تحت وطأتها قطاع الصحافة تعكس فشل النموذج الاقتصادي التقليدي، الذي تتجلى أهم مظاهره في تراجع توزيع المطبوعات الذي أدى إلى انخفاض عائدات الإعلانات، التي تمثل الركيزة التقليدية لتمويل الصحافة، ذلك أن النموذج الاقتصادي للصحافة المغربية ظل يعاني من نقاط ضعف هيكلية تجعله عرضة للصدمات الداخلية والخارجية، منها الاعتماد المفرط على سوق الإعلانات، حيث شكلت عائداتها موردا ماليا أساسيا، فضلا عن كون هذه السوق ظلت تشكو من ضعفها وسوء تدبيرها. والواضح أن هذا النموذج لم يكن ملائما، وأصبح غير مستدام مع دخول المنصات الرقمية الدولية على الخط، التي أصبحت تتحكم في النصيب الأكبر من كعكة الإعلانات، ينضاف إلى ذلك المشكل المتعلق بغياب ثقافة الاشتراك، حيث لم تستطيع المقاولات الصحفية المغربية تطوير ثقافة اشتراك صحفية قوية، ولم تتمكن المنابر الإعلامية المختلفة من التوفر على قاعدة مشتركين كبيرة بإمكانها ضمان موارد قارة (وهو الأمر الذي ينطبق على المنابر الإعلامية الحزبية بالرغم من القاعدة العريضة للمنتمين الحزبيين)، وهناك مشكل آخر يهم عدم قدرة هذه المقاولات على استكشاف مصادر بديلة للتمويل، وبالتالي تنويع مصادر دخلها.
وإلى جانب المشاكل المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والتكنولوجية، يمكن تفسير الأزمة التي تعيشها الصحافة المغربية أيضا بعوامل مرتبطة بالحكامة والتكوين، فمثلها مثل قطاعات حيوية أخرى، تعاني الصحافة المغربية من ضعف كبير على مستوى الموارد البشرية، عنوانه البارز عدم القدرة على التكيف مع متطلبات الاقتصاد الرقمي والمنافسة الدولية، حيث يستلزم التحول الرقمي ضرورة اكتساب الصحفيين لمهارات جديدة تستطيع مواكبة التحولات المتسارعة، وهو أمر صعب المنال مع محدودية فرص التكوين والتدريب والتطوير المهني، مع التذكير بأن معظم المقاولات الإعلامية تفتقر إلى استراتيجيات واضحة وطويلة المدى بخصوص التكيف والتعامل مع التحول الرقمي .
وتشكل قضية حرية الصحافة واستقلال قاعات التحرير بشكل عام، أيضًا عاملاً هيكليًا بارزا يعمق أزمة القطاع، حيث يواجه الصحفيون المغاربة في كثير من الأحايين ضغوطات سياسية واقتصادية تحد من قدرتهم على تغطية بعض المواضيع الحساسة، التي قد تعرضهم لخطر الملاحقة القضائية، وتجنبا لهذه الضغوطات ولخطر التعرض للملاحقة القضائية، تطورت الرقابة الذاتية في بعض مكاتب التحرير بشكل مبالغ فيه، الأمر الذي أثر سلبا على تنوع وعمق الموضوعات التي تتم تغطيتها إعلاميا.
أما بالنسبة للأسباب الظرفية المرتبطة بالتحولات الداخلية والخارجية، فيمكن القول إن جائحة كوفيد-19 كشفت عن الاختلالات المزمنة التي تتخبط فيها قطاعات عديدة منها قطاع الصحافة، ولعبت دورا متسارعا في تعميق أزمة الصحافة في بلادنا، حيث تسببت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء في تراجع الميزانيات المخصصة للإعلانات، المصدر الرئيسي للإيرادات بالنسبة للعديد من وسائل الإعلام، مما أدى إلى تفاقم الصعوبات القائمة مسبقا، وتكبد خسائر مالية مباشرة بسبب توقف الطباعة، وقد أدى هذا الوضع إلى تهديد العديد من المنابر بالإفلاس، وتسريع انتقال القراء إلى الوسائط الرقمية، مما أدى إلى انخفاض مبيعات المطبوعات. وإلى جانب الجائحة، ساهمت صدمات اقتصادية أخرى في إضعاف القطاع بشكل أكبر، وتتمثل هذه الصدمات في التضخم وارتفاع تكاليف الإنتاج، حيث أدى ارتفاع أسعار الورق والطاقة والمدخلات الأخرى إلى زيادة كبيرة في تكاليف المقاولات الصحفية.
كما أن المنافسة التي فرضتها المنصات العالمية كان له تأثير واضح ، إذ أصبحت شركات التكنولوجيا الرقمية العملاقة مثل جوجل وفيسبوك تستحوذ على حصة متزايدة من الميزانيات للإعلانات، على حساب وسائل الإعلام المحلية، ويؤثر هذا الاتجاه العالمي بشكل خاص على الأسواق الناشئة مثل المغرب، كما أن التوترات الجيوسياسية المتزايدة (كما هو الشأن بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية) والاضطرابات في سلاسل التوريد منذ الأزمة الصحية أدت إلى ضغوط اقتصادية متزايدة، أثرت على الاقتصاد المغربي بأكمله، بما في ذلك قطاع الإعلام.
والحقيقة أن التغيرات السريعة في عادات القراء و المستهلكين كانت عاملا حاسما ضمن الأسباب الظرفية التي عمقت الأزمة المتفاقمة في قطاع الصحافة، إذ تميز العقدين الأخيرين بتسارع التغيرات في عادات استهلاك “المعلومات والأخبار “، ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر المفضل للمعلومات بالنسبة للعديد من المغاربة، إلى جانب سرعة انتشار وتنويع مصادر المعلومات والترفيه، ومجانية استهلاك هذه المعلومات عبر الإنترنت( لا يمكن الحديث عن المجانية، لأن الوصول إلى الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي يتطلب اقتناء هاتف ذكي أو حاسوب أو لوحة ذكية إلى جانب اشتراك في الإنترنيت وهو ما يعني نفقات مالية)، حيث أصبحت وسائل الإعلام التقليدية تحت ضغط منافسة قوية مما يجعل من الصعب احتفاظها بقرائها ومتتبعيها..
والواقع أن الخروج من هذه الأزمة يعد مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، ولعل من الأولويات التي يجب القيام بها ضرورة إسراع قطاع الصحافة المغربية إلى إعادة النظر بشكل جذري في النموذج الاقتصادي الذي تم الاعتماد عليه حتى الآن، مع التركيز على تنويع مصادر الدخل من خلال استكشاف شراكات جديدة مع مختلف الفاعلين داخل المجتمع، وتوفير نماذج مبتكرة للاشتراكات الرقمية، وخدمات جديدة للمستهلكين تشمل البث الصوتي، والنشرات الإخبارية المتميزة، ومحتويات الفيديو المبتكرة، وخدمات التدريب والاستشارة في مختلف المجالات، دون إغفال العامل المحوري المتعلق بحكامة تدبير الدعم العمومي لقطاع الإعلام..
ومن ثم فإن الأزمة الحالية، على الرغم من هيكليتها، يمكن أن تشكل فرصة لتجديد الصحافة المغربية. ومن خلال الاعتماد على استراتيجية وطنية محكمة وواضحة، لن يتمكن القطاع من التغلب على صعوباته فحسب، بل سيتمكن أيضا من إعادة تنظيم نفسه وتجديد هياكله وتطوير أدائه للعب دوره الكامل في بناء المجتمع المغربي الديمقراطي المتقدم . ولن يتحقق ذلك إلا عبر التزام قوي من جانب جميع أصحاب المصلحة: والمهنيين الإعلاميين، والسلطات العمومية، وشركات ومؤسسات المعلنين، ومعاهد التكوين والتدريب، وبطبيعة الحال، إلى جانب الانخراط الواعي للقراء والمستهلكين .