الرباط – العرب تيفي -عبدالفتاح الصادقي
الصحافي المغربي عبد الفتاح الصادقي يكتب : الجزائر تتوجه نحو الخراب
إن المتتبع للشأن الجزائري لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن الجزائر تمر بمرحلة حالكة، تتسم بتدهور مثير للقلق في هياكلها الاقتصادية، وتفكك متزايد لأوضاعها الاجتماعية، واضطراب مستمر يتخذ طابع المأزق البنيوي على المستوى السياسي. ويضاف إلى هذه الهشاشة الداخلية استمرار المتحكمين في دواليب السلطة، في تبني مواقف دبلوماسية عدوانية، تزيد من حدة عزلة البلاد على الساحة الدولية.
إن هذا المناخ المشحون والمحتقن يدفع المتتبع الباحث إلى طرح سؤال محوري: كيف وصلت دولة ذات موارد طبيعية هائلة وموقع استراتيجي متميز إلى حالة من الخراب التام؟ إن الإجابة على هذا السؤال يستوجب الكشف، بالمعطيات الملموسة، عن الأسباب الجذرية، الداخلية والخارجية، لهذا التوجه المقلق.
–تدهور الاقتصاد والاعتماد المفرط على الهيدروكربونات وهروب الاستثمار
تتحدث العديد من التقارير الوطنية والدولية عن أسباب وعوامل داخلية كثيرة وفشل متعدد الأبعاد يفسر كيف أن البلاد تتجه نحو الخراب، حيث يتجلى البعد الأول في تدهور الاقتصاد والاعتماد المفرط على الهيدروكربونات وضعف تنوع الأنشطة الاقتصادية وهروب الاستثمار، والفساد والبيروقراطية ووجود المؤسسات غير الفعالة. ويتجلى البعد الثني في استفحال الأزمات الاجتماعية مع ارتفاع معدلات البطالة، وخاصة بين الخريجين الشباب، وتفاقم التفاوتات الإقليمية وتزايد مشاعر اليأس وانعدام الثقة، وتدهور الخدمات العامة في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان، وغلاء المعيشة وضعف تزويد السوق الوطنية بالمواد الاستهلاكية الأساسية، والذي تعكسه ظاهرة الطوابير من أجل اقتناء مواد الدقيق والقطاني والحليب والزيت وغيرها.. أما البعد الثالث فيظهر في الانسداد السياسي وغياب الإصلاحات التي تلبي حاجات وانتظارات المواطن الجزائري، وهو ما يعكسه جمود السلطة المركزية ورفض التغيير، وقمع الاحتجاجات الشعبية،واعتقال المعارضين، وفقدان الثقة في النخب السياسية..
أما بخصوص الأسباب والعوامل الخارجية التي تفسر توجه الجزائر نحو الخراب، فيمكن تلخيصها في الانخراط المحموم للحاكمين في تفجير العلاقات الخارجية، والتسبب في تفاقم التوترات الإقليمية من خلال الاعتماد على دبلوماسية عدوانية، وهو ما عكسه تدهور العلاقات مع المغرب وفرنسا وبعض دول الساحل، والاستمرار في التدخل في الشؤون الداخلية للدول والاعتداء على سيادتها الوطنية وتشجيع الحركات الانفصالية، وهو ما يبرز بشكل واضح في دعمها البوليسايو ضد الوحدة الترابية للمملكة المغربية و المجموعات الانفصالية الأزوادية ضد الوحدة الترابية لمالي..
–اتحاد المغرب العربي يعيش حالة الموت الإكلينيكي
وفي هذا الإطار وصلت العلاقة مع المملكة المغربية أدنى مستوياتها، وقد عبر عن ذلك الرئيس الجزائري نفسه حيث أكد في بلقاء صحفي أنها وصلت إلى” نقطة اللاعودة”، ورافق انهيار العلاقات الدبلوماسية في عام 2021 تصعيد كلامي، وإغلاق المجال الجوي، وتكثيف الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو الانفصالية. ولا شك أن هذا العداء المستمر يؤدي إلى تقويض أي احتمال للتعاون الإقليمي، وخاصة داخل اتحاد المغرب العربي الذي يعيش حالة الموت الإكلينيكي .
وظلت علاقات الجزائر مع فرنسا ــ القوة الاستعمارية السابقة ــ تتأرجح بين التوترات بشأن الذاكرة والخلافات الاستراتيجية. وقد أدت النزاعات حول إدارة التأشيرات، والتصريحات الفرنسية بشأن طبيعة الدولة الجزائرية والنظام الجزائري، إلى تغذية أجواء من انعدام الثقة المستمر بين البلدين، وكان الاعتراف الفرنسي بسيادة المملكة المغربية على صحرائها، نقطة التحول الجذرية التي أفقدت حكام قصر المرادية البوصلة، وعمقت الهوة بينهم وبين فرنسا .
والخطير أن مظاهر التوتر والعداء برزت في أماكن أخرى بعيدة عن المحيط الجغرافي للجزائر، كالعراق والإمارات العربية المتحدة، حيث أمعن حكام الجزائر في تعميق الخلافات حول بعض القرارات الإقليمية، وخاصة بشأن سوريا وليبيا، مما أدى إلى تفاقم هذه الاحتكاكات والتوترات، ووصل الأمر إلى توظيف الإعلام الرسمي الجزائري باستعمال خطاب ساقط بعيد عن المهنية، والتهجم على دول ذات السيادة كما حصل مع مالي التي وصف حكامه ب”الطغمة الانقلابية” والإمارات العربية المتحدة ب”الدويلة المصطنعة”..
-مواقف الجزائر جعلتها معزولة عربيا وإسلاميا وإفريقيا وعالميا
والحقيقة أن العزلة التي فرضتها الجزائر على نفسها، ومواقفها الدبلوماسية المنغلقة والعدوانية، كان لها عواقب وخيمة على مكانتها الإقليمية والدولية، عربيا وإسلاميا وإفريقيا وعالميا ..
فعلى الصعيد العربي، وجدت الجزائر نفسها مهمشة في القضايا الكبرى في العالم العربي، بعدما كانت في السابق تعتبر نفسها لاعباً محورياً في الحركة القومية العربية وفي دعم القضية الفلسطينية، بسبب الاستمرار في ترديد شعارات الحرب الباردة، وعدم قدرتها على مواكبة المتغيرات الدولية والديناميكيات التي تعكسها اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا، وبرز ذلك بشكل واضح خلال اصطفافها إلى جانب نظام بشار الأسد المنهار، ودعوتها إلى إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية، الأمر الذي وضعها على خلاف مع قوى عربية رئيسية، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وشكلت محطة القمة العربية التي عقدت في الجزائر عام 2022 مؤشرا بارزا على انحسار نفوذها في محيطها العربي، مع غياب العديد من رؤساء الدول و صدور بيان ختامي ذي مضمون محتشم بعيد كل البعد عن الطموحات التي ظلت تعبر عنها قبل انعقاد القمة.
وعلى الصعيد الأفريقي، باتت الجزائر تعاني من كسوف دبلوماسي متزايد، وخاصة في مواجهة الدينامية التي تتمتع بها المملكة المغربية، التي انخرطت في بناء شراكات اقتصادية وأمنية وثقافية متينة في مختلف أنحاء القارة. وظهر أن الجزائر لا تمتلك أي نفوذ إقليمي، حيث انسحبت من المحافل الاقتصادية الإفريقية، بسبب غياب الدبلوماسية الاقتصادية الفعالة، وتدهور العلاقات مع بعض دول الساحل.
-الجزائر تفقد يوما بعد يوم مصداقيتها على الساحة الدولية
وعلى المستوى الدولي، بات وضحا أن الجزائر تفقد يوما بعد آخر مصداقيتها على الساحة الدولية، وهي بذلك تدفع ثمن عزلتها الاستراتيجية، وافتقارها للإصلاحات الداخلية، ونهجها الدبلوماسي العدواني وموقعها الجيوسياسي الغامض. إن افتقار الجزائر إلى تحالفات قوية مع القوى الاقتصادية الكبرى (لم تستطع الالتحاق بسفينة البريكس)، واعتمادها المستمر على صادرات الهيدروكربون، وسمعتها السيئة من حيث الحكامة، كلها عوامل تعيق الاستثمار الأجنبي المباشر، وتجعلها وجهة غير موثوق بها وغير آمنة..
لا بد من الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن الجزائر مثلها مثل جميع الدول التي تحكمت فيها الأنظمة العسكرية الاستبدادية، اتسمت منذ استقلالها سنة 1962، بمركزية مفرطة في بنية النظام السياسي، حيث تتحكم السلطة التنفيذية في معظم القرارات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وتخضع لهيمنتها مختلف مؤسسات الدولة. واشتدت هذه المركزية الاستبدادية بسبب الدور المهيمن للجيش، الذي يشكل العمود الفقري الحقيقي للنظام السياسي الجزائري . ذلك أن القيادة العسكرية العليا ليست فقط ضامنة للنظام، بل هي فاعل مباشر في الحياة السياسية، وتسيطر على المحركات الأساسية للدولة، بدءا من التعيينات في المناصب إلى التوجهات الاستراتيجية، وتتحكم في مختلف الأجهزة والمؤسسات سواء كانت أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية ..
وهكذا يعمل النظام السياسي الجزائري في الغرف المظلمة وبطريقة غامضة (حسب تعبير الإعلام الرسمي الذي يتحكم فيه )، يهيمن عليها منطق الولاء وشبكات المصالح، على حساب أي شكل من أشكال الشفافية أو الديمقراطية التشاركية، كما أن المؤسسات المدنية، بما في ذلك البرلمان والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام ، يتم استغلالها إلى حد كبير، في التطبيل ل”منجزات الجيش الوطني الشعبي الملتحم مع الشعب”، وتقليص وجودها إلى ممارسة أدوار شكلية أو معارضة خاضعة للسيطرة.
إن الخلاصة التي يمكن أن يقف عندها أي متتبع هي أن الجزائر، الغنية بإمكانات هائلة على المستوى البشري والاقتصادي والجيوستراتيجي، تبدو اليوم غارقة في دوامة من التقهقر والانحدار، تعكسها المعطيات الملموسة على المستوى الداخلي، المتجلية في الجمع بين اقتصاد الريع المتأزم، والسلطة السياسية الجامدة التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية، والسخط الاجتماعي المتزايد، الذي يخلق مناخاً من عدم الاستقرار الكامن. وكذا المعطيات البارزة على الصعيد الخارجي، المتمثلة في العزلة الدبلوماسية التي تغذيها مواقف متضاربة وخيارات جيوسياسية متشددة، تزيد من تهميش البلاد في بيئتها العربية والإفريقية والدولية.
وأمام هذا المأزق المزدوج ــ الداخلي والخارجي ذي الطابع البنيوي ــ فإن غياب الإرادة لإجراء إصلاحات عميقة والانفتاح على شراكات جديدة يضع الجزائر على مسار خطير، نهايته الخراب كما حصل للعديد من الأنظمة العسكرية الاستبدادية. صحيح أن هذه النتيجة ليست حتمية، لكن الخروج من المأزق والتغلب على الصعوبات والوصول إل شط النجاة، يتطلب شجاعة سياسية حقيقية ترتكز على الاستماع إلى تطلعات الشعب، وتخليص نظام الحكم من الهيمنة العسكرية، تحقيقا لشعار الحراك الشعبي ” مدنية لا عسكرية”، وإعادة هيكلة الاقتصاد حول اعتمادا على الشفافية التدبير وتنويع القطاعات والأنشطة الاقتصادية، وتبني دبلوماسية بناءة تبتعد عن العدوانية والخطاب التحريضي، وتقوم على التعاون بدلا من المواجهة، ذلك أن العمل الدبلوماسي من المفروض أن يسعى إلى التفاوض وإحلال السلام وليس إلى إذكاء النعرات وإشعال فتيل الحروب..